ثقافة

[صور+ فيديو] قصر مدنين: جزء من تراث الجنوب الشرقي أصبح مهدّدا بالاندثار‎

قصر مدنين: جزء من تراث الجنوب الشرقي أصبح مهدّدا بالاندثار‎" ]

“قصر مدنين” معلم اثري يتوسط قلب المدينة ويعد جزءً من موروث ثقافي جماعي يحفظ تقاليد الأجداد في ذاكرة الأجيال..
هذا الموروث اصبح مهددا بالاندثار فغرف القصر أصبحت تتهاوى الواحدة تلوى الأخرى..
آخر هذه الغرف انهارت خلال هذا الأسبوع والبقية أغلبها تصدعت وأصبحت تتداعى للسقوط رغم المطالب المتكررة بترميمها فعمليات الترميم شبه متوقفة منذ سنوات وحتى الغرف التي رممت لم ترمم وفق المعايير المطلوبة وفق تصريح أحد الحرفيين المنتصبين داخل القصر ويدعى أحمد الهادي بن حميدة.

وقال بن حميدة أنه وزملاءه العاملين بالقصر سبق وأن طالبوا في اكثر من مناسبة بترميم القصر لكن لا من مجيب رغم أن المسؤولين تحولوا على عين المكان وقدموا وعودا بقيت مجرد كلام فقط، مشيرا إلى ان وزير الشؤون الثقافية محمد زين العابدين كان زار يوم 18  نوفمبر الماضي القصور السياحية بمدنين وعاين انهيار عدد من الغرف وتعهد بالتدخل وأكد على ضرورة ايلاء المعهد الوطني للتراث الاهتمام اللازم للقصور.
وأعرب محدثنا عن تخوفه من نزول الأمطار  التي تزيد من خطر سقوط الغرف.
تاريخ القصور الصحراوية بالجنوب الشرقي ووظائفها وفق مؤرخين 

ظهرت، بجهة ورغمة بالجنوب الشرقي، بعض مظاهر العمران. وتمثّلت هذه الظاهرة في إرساء موقع يحصّن الأرزاق، ويصون علاقات أفراد القبيلة والعشيرة، ويلائم عادات حركيتهم وضرورة وجود نقاط ارتكاز واستقرار.

تبنى هذه الغرف في بادئ الأمر تحتيّة ثمّ ترفع أخرى، حسب الحاجة، فوقها لتشكّل طوابق القصر التي يمكن أنّ تصل إلى خمسة. تفتح الغرف على ساحة القصر التي يكون لها، عادة، شكل دائري، مستطيل أو مربّع حسب موقع المبنى وارتفاعه زيصل ضلع المربع إلى مائة متر أو أكثر.

وتبنى الغرف المكوّنة للقصر في شكل مستطيل من الجبس المحروق والحجر الصغير الحجم المعروف باسم “كماري”، “ورقة”، “صمّ”. يتوفّر هذا النوع من الحجر بكميّات كبيرة بالمناطق القاحلة ويكاد يكون من أهمّ خاصياتها نظرا إلى جفاف أرضها وسهولة انجرادها وانجراف تربتها.

اما أسقف الغرف فتنجز “بالكمر”  وهو سقف في شكل نصف إسطواني وتمسح كلّ واحدة منها حوالي 20م² وتكون  أبوابها من خشب النخيل “الصنّور” وأقفالها ومفاتيحها من خشب الزيتون.

يشيّد القصر أصحابه، فوق قطعة أرض تسند غالبا صدقة إلى المجموعة، فيشرع في بناء الغرف الواحدة تلو الأخرى. ويبقى هواء الغرف على ذمة كلّ راغب في البناء حتى يتمّ تشييد القصر بكامله. يتزايد ويتعدّد بناء الغرف حسب عدد أفراد العشيرة أو القبيلة من عائلات مرتبطة بنسب أو حسب أو يجمعهم الترابط بالتحالف والتصاحب والتضامن ويطلق عليه القصر الخاص. وقد ينشأ القصر أيضا من أكثر من قبيلة أو عشيرة ويسمى القصر العام. فالقصر هو مبنى جماعي تشترك في إنجازه، على مدى السنين، أجيال قبيلة أو عشيرة أو أكثر.

أمّا وظائف القصر فمتعددة ومتنوّعة حيث بُني ليكون قبل كلّ شيء موقعا قارّا لمجموعة ما من المجموعات المتنقّلة من سكّان المناطق القاحلة. تستعمل هذه المجموعات القصر لتخزين الحبوب والمحاصيل الزراعية الأخرى من زيت زيتون وتين وغيرها كالأعلاف من تبن ونوى، كما تخزن في القصر معدّات العمل، ولوازم منزلية، يكون عددها ضئيلا، كما يمكن أن تترك فيه اشياء أخرى كالأثاث يفضّل أهلها إبقاءها عند متابعة تنقّلهم الشاقّ أحيانا ومواصلة ترحالهم العادي.

يستقرّ بالقصر، على مدار السنين، أصحاب المهن ممارسة مناشطهم كصنع المعدات الزراعية البسيطة وصيانتها. (محراث، جاروشة، فركة…) وكالحياكة. ويقوم بهذه الأعمال ويتوارثها في غالب الأحيان أفراد عائلة تتقن نجارة الخشب والحدادة ونعل الخيل وحياكة الأغطية والملابس الصوفية.

يشارك هؤلاء الحرفيين في استقرارهم بالقصر ولمدّة قصيرة بعض المتخصّصين في تحويل المنتجات الزراعية، كأّصحاب معاصر الزيت الذين يبنون معاصرهم بالقصر أو خارجه. ويعتبر هذا النشاط أحد ركائز القصر من حيث الخدمات وأكثر دافع تردّد عليه.

وبمرور الزمن، ونظرًا إلى ما يسديه القصر من خدمات، اصبح موقعا يرتاده أصحابه وغيرهم من أفراد الجماعات الأخرى، كما يقصده العابرون والمسافرون من أصحاب القوافل الصحرواية التي شاركت في إرساء القصر وذيوع صيته، عبر الزمن، بتبادل البضائع وتكامل الخدمات في فضائه، وتناقل المعرفة والأخبار بين أصحابه ومستعمليه.

ويحرس القصر، على مدى السنة، أحد أفراد المجموعة يمنح سنويا مقابل هذه الوظيفة نصيبا من الحبوب أو من زيت الزيتون يقدّمه إليه كلّ صاحب غرفة.

و بات القصر بمرور الزمن مأوى يلتقي فيه أصحابه لا لتخزين مواردهم وأرزاقهم وتبادل المنتجات والسلع فحسب، ولكن لتداول شؤونهم الحياتية والاجتماعية والثقافية أيضا لهذا يبدو القصر في هذه الحياة البدوية نقطة ترابط وتواصل بين أطراف متفرّقة شبه مستقرة. هذه المهمّة جعلته يجسّد روابط لهذه المجموعات السكانية ليس على طول الزمن فحسب، بل على امتداد ربوع هذه المناطق من الجنوب الشرقي التونسي، وفي سلوك حياة أهله.

تتنوّع القصور وتتوزّع بالجنوب الشرقي من ناحية حسب انتشار أصحابها من قبائل وعشائر على أرض ربوعه، ومن ناحية أخرى حسب تضاريس هذه المناطق الجافّة. فقد شيدت على قمم الجبال في عصر الإسلام الكلاسيكي وعلى سطح المنبسطات في الحقبة الحديثة. وتتشكّل هذه القلاع فوق قمم الجبال لتكون بمنزلة حصون صغيرة تحفر تحتها، وتبنى الغرف الجبلية التي تشكّل في بعض الحالات قرى جبلية يصعب الوصول إليها، يلجأ إليها أصحابها بأرزاقهم من مواشٍ ودوابّ وغيرها لاتّقاء شرّ الهجمات التي يشنّها بعض العابرين أو الأجوار.

ولقد تكاثرت قصور الهضاب والسهول في أوائل القرن العشرين بعد أن رغب السكان في الاستقرار لتثبيت ملكية أراضيهم التي كانوا يشتركون فيها دون تحديد مواقعها وتوضيح حدودها. نذكر من هذه القصور قصور الخربة، الزهرة، الجليدات، العجاج، بني مهيرة، عون، المرّة، قطوفة، السمار، أولاد الحاج، أولاد دبّاب، أولاد سلطان، أولاد بوبكر، الرّهاش، الشقايق، كرشاو.أمّا بمدنين فقد شيّد قصر أمّ التمر على ربوة ليتوسّط واحة صغيرة اشتهرت بتعدّد بساتينها.

أمّا القصور الجبلية بمدنين فجلّها يوجد بمنطقة بني خداش ومن أهمها: زمّور، الجوامع، الخيّر، بني خداش، الجراء، أولاد بوعبيد، الخراشفة، الكريكرية، الحلوف. ويطلّ هذا الأخير على واحة جبليّة صغيرة ذات مناظر طبيعية خلاّبة.بعد تمدّن سكان هذه المناطق وارتقاء العمران الذي زحف حاليا على قرى الجنوب الشرقي ومدنه، كان التخلّي تدريجيا عن هذه القصور، إلاّ أنّ أصحابها ظلّوا يتقاسمون غرفها كما جرت العادة بين أفراد العشيرة والقبيلة. ولقد غدت لهذه الأجيال إرثا يتقاسمونه، وموروثا جماعيا وثقافيا يشتركون فيه ويلتفّون حوله، من أهمّ هذه القصور قصر الجليدات، قصر أولاد دباب، قصر الجوامع، قصر مدنين…

لمتابعة كلّ المستجدّات في مختلف المجالات في تونس
تابعوا الصفحة الرّسمية لتونس الرّقمية في اليوتيوب

تعليقات

الى الاعلى